الأصمعي
والبقّال
*******
قال الأصمعي :
كنت بالبصرة أطلب العلم وأنا فقير، وكان على باب زقاقنا بقّال، إذا خرجتُ باكراً
يقول لي إلى أين.؟ فأقول إلى فلان المحدّث ،وإذا عدت
مساءً يقول لي من أين.؟ فأقول من عند فلان اللغويّ ، فيقول
البقال : يا هذا، إقبل وصيّتي، أنت
شاب فلا تضيّع نفسك في هذا الهراء ،وأطلب عملاً يعود عليك نفعه وأعطني جميع ما
عندك من الكتب فأحرقها فوالله لو طلبت مني بجميع كتبك جزرة ما أعطيتُك.!فلما ضاق صدري بمداومته هذا الكلام، صرت
أخرج من بيتي ليلاً وأدخله ليلاً،وحالي في خلال ذلك تزداد ضيقاً، حتى
أضطررت إلى بيع ثياب لي،وبقيت لا أهتدي إلى نفقة يومي، وطال
شعري وتهرأ ثوبي، وأتّسخ بدني.
فبينما أنا كذلك متحيّرفي أمري، إذ
جاءني خادم للأمير محمد بن سليمان الهاشمي، فقال
لي : أجب الأمير.فقلت : ما يصنع الأمير برجل بلغ به
الفقر إلى ما ترى.؟ فلما رأى سوء حالي وقبح منظري، رجع
فأخبر محمد بن سليمان بخبري، ثم عاد إليّ ومعه تخوت ثياب ودرج فيه
بخور، وكيس فيه ألف دينار، وقال : قد أمرني الأمير أن أُدخلك
الحمام وأُلبِسك من هذه الثياب وأدع باقيها عندك ، وأطعِمك من هذا الطعام ،
وأبخّرك، لترجع إليك نفسك ثم أحملك إليه، فسررت
ودعوتُ له، وعملتُ ما قال، ومضيت
معه حتى دخلت على محمد بن سليمان، فلما سلّمتُ عليه، قرّبني
ورفعني ثم قال
: يا عبد الملك، قد سمعت عنك، وأخترتك لتأديب أبن
أمير المؤمنين، فتجهّز للخروج إلى بغداد، فشكرته
ودعوت له،وقلت سمعاً وطاعة سآخذ شيئاً من كتبي وأتوجّه إليه غداً، وعُـدت إلى داري
فأخذت ما أحتجت إليه من الكتب، وجعلتُ باقيها في حجرة سددتُ بابها، وأقعدت
في الدارعجوزاً من أهلنا تحفظها٠
فلما وصلت إلى بغداد دخلت على أميرالمؤمنين هارون الرشيد قال لي : أنت عبد الملك الأصمعي؟ قلت : نعم، أنا عبد الملك الأصمعي يا أمير المؤمنين . قال : إعلم أن ولد الرجل مهجة قلبه وها أنا أسلم إليك أبني محمداً بأمانة الله فلا تعلمه ما يُفسد عليه دينه، فلعله أن يكون للمسلمين إماماً. " نقاء القلب والروح "قلت السمع والطاعة، فأخرجه إليّ، وحُوِّلْتُ معه إلى دار قد أُخليت لتأديبه ، وأجرى عليّ في كل شهرعشرة آلاف درهم فأقمت معه حتى قرأ القرآن وتفقّه في الدين، وروى الشعر واللغة،وعلم أيام الناس وأخبارهم. وأستعرضه الرشيد فأُعجب به وقال : أريد أن يصلي بالناس في يوم الجمعة، فاختر له خطبة فحفِّظْه إياها، فحفّظتُه عشراً، وخرج فصلى بالناس وأنا معه، فأعجب الرشيد به وأتتني الجوائز والصِلات من كل ناحية، فجمعت مالاً عظيماً أشتريت به عقاراً وضياعاً وبنيت لنفسي داراً بالبصرة فلما عمرت الدار وكثرت الضياع، أستأذنتُ الرشيد في الانحدار إلى البصرة، فأذن لي . فلما جئتها أقبل عليّ أهلها للتحية وقد فَشَتْ فيهم أخبار نعمتي وتأمّلت من جاءني، فإذا بينهما البقّال وعليه عمامة وسخة، وجبّة قصيرة فلما رآني صاح : عبد الملك.! فضحكت من حماقته ومخاطبته إيّاي بما كان يخاطبني به الرشيد ثم قلت له : يا هذا، والله جاءتني كتبي بما هو خير من الجَزَره.
Sign up here with your email
ConversionConversion EmoticonEmoticon