مأساة دنشواي

 


" مأساة دنشواي " 

*****

إبراهيم الهلباوي (1858-1940)، نجم المحاكم وسيد البلاغة. كان صوته سيفًا يشقّ الجدران، وحججه دروعًا تحمي المظلومين. وصفه عباس محمود العقاد بأنه "لسان لايهدأ، يُتعب صاحبه قبل خصومه"، وقال عنه عبد العزيز البشري إنه "عبقري، يحبه قوم ويبغضه آخرون، لكنهم يقرون بتفرده". كان الهلباوي مسرحًا حيًا، يمزج الفصحى بالعامية، يرقص بكلماته أمام القضاة، ويسرق أنفاس من يسمعه. لقبوه "أعظم طلاب الرحمة"، لكنه، في لحظة قدرية، فشل في استجداء رحمة شعبه.مأساة قرية دنشواي مركز الشهداء بمحافظة المنوفية هي التي غيّرت كل شيء، في صيف 1906، تحت سماء مشتعلة بحرارة يونيو، كتبت قرية دنشواي بالمنوفية فصلاً مروعًا من تاريخ مصر. في 13 يونيو، اقتحم خمسة جنود بريطانيين، بقيادة الميجور كوفين، القرية لصيد الحمام، عيار طائش أصاب زوجة الشيخ محمد عبد النبي، و اشتعل جرن الغلال، ظن الأهالي أن المرأة قُتلت، فهاجوا على الجنود، وفي الفوضى، أصيب شيخ الخفر، وفرّ الضابطان بول وبوستك. وبعد الجريٍ المحموم تحت الشمس، سقط بول ميتًا، متأثرًا بضربة شمس قُرب مركز الشهداء. وكان رد الاحتلال كالصاعقة. أُلقي القبض على 52 فلاحاً، وشُكلت محكمة مخصوصة برئاسة بطرس باشا غالي، وعضوية هبتر و بوند و لهادلو و أحمد فتحي زغلول. كان المشهد جاهزًا لمحاكمة صورية، لكن الأضواء سُلطت على إبراهيم الهلباوي، الذي اختير ليمثل الحكومة في إدانة الفلاحين، وفي لحظةٍ غامضة، قبل الهلباوي المهمة. على رصيف محطة القطار، أُخبر أن رئيس الوزراء ينتظره هناك، عرض عليه محمد محمود بك تمثيل الاحتلال، وخفّض أتعابه من 500 جنيه إلى 300، كأنما يُمهد لمصيبةٍ قادمة وفي المحكمة، تحوّل الهلباوي من بطل الدفاع إلى جلاد القضية. زعم أن الفلاحين أشعلوا الحريق عمدًا لإخفاء نواياهم الإجرامية، وأن الاشتباك كان مؤامرة مدبرة، وفند شهادات البراءة، وحوّل شهادة عبد المطلب محفوظ، الذي قدم الماء للجنود، إلى إدانة ببراعة شيطانية، بل نفى التقاريرالطبية التي أكدت وفاة بول بضربة شمس، مُلقيًا اللوم على الفلاحين. في 28 يونيو 1906، دوّت الأحكام كالرعد: إعدام حسن علي محفوظ، يوسف حسني سليم، السيد عيسى سالم، ومحمد درويش زهران. جُلد 12 آخرون 50 جلدة، وحُكم على الباقين بالأشغال الشاقة. نُفذت الأحكام أمام أهالي القرية، بينما المشانق تُعد قبل التحقيق، كما وثقت "المقطم". تحولت دنشواي إلى مسرح للظلم، والهلباوي إلى رمز الخيانة. جلاد دنشواي: اللقب الذي لاحقه أطلق الشيخ عبد العزيز جاويش على الهلباوي لقب "جلاد دنشواي"، ونطق حافظ إبراهيم بهجاءٍ لاذع:

أيها المدعي العمومي مهلاً.. بعض هذا فقد بلغت المراد

اأنت جلادنا فلا تنس أنا.. لبسنا على يديك الحدادا

ورثى أحمد شوقي القرية بدموع الشعر:

يا دنشواي على رباك سلام.. ذهبت بأنس ربوعك الأيام

السوط يعمل والمشانق أربع.. متوحدات والجنود قيام

عاش الهلباوي 34 عامًا تحت وطأة اللعنة، حاول التكفيرعن خطيئته، مدعيًا أنه خفف من محاولات الاحتلال لتضخيم الحادثة، لكن الشعب أغلق أذنيه. ظلّ لقب "جلاد دنشواي" يطارده، وظلّ صوته يتردد: "ما أتعس المحامي، يُعادي خصم موكله دون أن يكسب وده".

لم يكن الهلباوي وحيدًا في هذا الظلام بل كان معه بطرس باشا غالي، رئيس المحكمة، قاد المحاكمة بقلبٍ بارد، حتى لقي مصرعه على يد إبراهيم الورداني في 20 فبراير 1910، برصاصاتٍ مزقت رقبته. وأحمد فتحي زغلول، شقيق سعد زغلول، كتب حيثيات الحكم بخط يده، فطاردته لعنة الشعب حتى وفاته في 1914. حتى شقيقه الزعيم لم يُسلّم من سهام الخصوم التي استغلت خيانة أحمد زغلول.


ConversionConversion EmoticonEmoticon

:)
:(
=(
^_^
:D
=D
=)D
|o|
@@,
;)
:-bd
:-d
:p
:ng