قشـور المانجـو
***********
يقول والدي في طفولتي عندما كان يدخل موسم فاكهة المانجو، كان أبي يحضر منها
كمية للبيت، وكنا نجلس حوله لنشاركه طعمها العذب، كنا نحب هذه الفاكهة كثيراً، فكان
يعطينا اللبّ منها، ويقوم هو بأكل قشورها !! كنت أراقب هذا التصرف الغريب منه دون أن
أعلم السبب ، وسألته يوماً : لماذا تأكل قشورالمانجو يا أبي ؟! نظر إلي بابتسامة وقال
: "آكلها أنا حتى لا تأكلها أنت" لم أفهم معنى كلامه في وقتها، وبرّرت الأمربأنها قد تكون عادة قديمة إكتسبها من أيامه التي عاشها في طفولته بين أحضان الفقر القاسي
، وخصوصاً أن طعم قشور المانجو ليس سيئاً ، ولكنه بصراحة لا يقارن بما هو تحت تلك القشور. المهم : مع الأيام نسيت أمرقشورالمانجوكما نسيت الكثير من الذكريات بين صفحات
كتاب الزمن، إلى مدة قريبة عندما أهداني صديق لي فاكهة مانجو ، جلبها لي كهدية من بلد
بعيدة . كنت أمنّي نفسي بالإستمتاع بطعمها الذي ينافس شهد النحل طوال الطريق وأنا متجه
الى بيتي ، وبمجرد أن وصلت البيت بدأت في تقطيع تلك المانجو وهي تتفجر بين يدي بما
تحتويه من لبّ ذهبي، وعصير ملكي أحبُه كثيرا ، وقبل أن أضع أول قطعة منها في فمي، اقتربت
إبنتي الصغيرة مني وقالت : أبي، أريد قطعة ؟ إبتسمت من طلبها و أعطيتها الجزء الذي كان
بيدي. وعلى الفور إقترب إبني يطلب مثل ما حصلت عليه اخته. ولحقتهما أختهما الثالثة
تطلب حصتها تماماً كما حصَّل إخوانها. كانت فرحتي بالنظر لهم وهم يمرغون وجوههم بقطع
المانجو، والسعادة والفرح تشع من أعينهم كشمس الصباح الدافئة بعد ليلة شتاء قارص ،
وفي هذه اللحظة وجدت نفسي أمام صحن خالي إلا من بعض قشور المانجا التي مازال عالقاً
بها أجزاء صغيرة من فتات الفاكهة الأصلية . وبدأت في التهام قشورالمانجو دون تفكير
الى أن توقفت فجأة لأتذكر كلمات أبي رحمه الله ! الآن فقط بعد كل تلك الأيام والسنوات
اتضحت لي معنى كلماته وماذا كان يقصد بعبارته، وغصّت اللقمة في فمي وهطلت الدموع من
عينيّ ، الآن فقط علمت أن سعادة أبي الحقيقية لم تكن يوماً في أكل قشور المانجو ، وإنما
كانت سعادته الحقيقية في رؤيتنا ونحن ناكل أفضل جزء منها أمامه . كانت فرحته الغامرة
وهو يشاهدنا ونحن نحصل على أفضل وأنقى وأجود ما كان يقدمه إلينا في لحظتها ، وتساءلت
حينها والدموع في عيني : يا هل ترى كم من مانجو قدمها لنا أبي واكتفى هو بمجرد قشورها
؟! وأنا هنا لا أقصد تلك الفاكهة بذاتها ، ولكن أقصد كل ما ترمز له في هذه الحياة
! فالمانجو قد تكون ملبساً، أو طعاماً أو بيتاً،
أو فراشاً، أو نوماً مريحاً، أو تعليماً !! ((والله، مانجو الأهل لا حدود لها، ولا
يمكن لأحد أن يقيِّم سعرها)) ومن بين ذكرياتي تمنيت لو كان الأمر بيدي، لدفعت عمري
كله ثمناً حتى يعود بي الزمن لأجلس مع أبي يوماً واحداً أسبقه حينما يحضر فاكهة المانجو،
لألتهم قشورها بدلاً عنه ليتبقى له فقط أفضل ما فيها ، حتى اذا سألني لماذا أحب أكل
قشور المانجو ؟ فأقول له :
"آكلها أنا حتى لا تأكلها أنت"
Sign up here with your email
ConversionConversion EmoticonEmoticon