العِرق دساس

 

العِرق دساس

*****

دخل رجل غريب إحدى البلاد وهو ينادي بأعلى صوته: أنا سياسي، أستطيع حلّ المعضلات والمشاكل بين الدول، وبين العشائر، وحتى بين الأفراد، أنا سياسي.

وكان الملك جالسًا في قصره، فسمع المنادي، وأمر رجاله أن يأتوه به. فلما دخل الرجل على الملك وسلّم، سأله الملك:  أنت سايس؟ أي مروّض الخيل.

فأجابه الرجل: - لا يا مولاي، أنا سياسي.

لكن الملك قال: - لا، لقد سمعتك تقول إنك سايس، واليوم قد عيّنتك لدينا سايسًا للخيل.عندي فرس أحبها أكثرمن نفسي، وأريدك أن تتولى أمرها.

فقال الرجل متوسلًا: - يا مولاي، لستُ سايسًا بل سياسيًّا.

لكن الملك هدده: - إما أن تكون سايسًا للفرس، وإلا أمرت بقطع رأسك!

فلم يجد الرجل مفرًّا سوى الامتثال خوفًا من الموت ، وتسلّم الفرس من السايس السابق، فحذّره الأخير قائلًا: إياك أن تُخبر الملك بعيوبها، وإلا قتلك، نظر الرجل إلى الملك وقال:– مولاي، أعفني من هذه المهمة.

فأجابه الملك:- لن أعفيك، فقد عيّنتك سايسًا، وسلّمتك الفرس. ثم أمر أن يُجهَّز له مكان للنوم والطعام، وجعلوا له ثلاث وجبات من مرق ورز كل يوم، وطلبوا منه أن يبدأ عمله. باشر الرجل مهمته، وبعد عشرين يومًا هرب خوفًا من الملك. فأمر الملك بإحضاره وسأله:- لماذا هربت؟ هل وجدت عيبًا في الفرس؟ قال الرجل: - أعفني يا مولاي.

فقال الملك:- أخبرني بما وجدت، وإلا أعدمتك.

فقال الرجل:- أعطني الأمان أولًا. قال الملك:- لك الأمان.

فقال الرجل:- الفرس أصيلة، ولكن من أخبرك أنها رُضعت من أمها الأصيلة فلا تصدقه! ، غضب الملك، وسلّ سيفه ليقطع رأسه وهو يقول: - كيف تزعم أن فرسي لم ترضع من أمها الأصيلة؟ ثم أمر بسجنه، و أرسل في طلب الوزير الذي أهداه الفرس. ولما حضر الوزير، سأله الملك:- كيف تهديني فرسًا لم ترضع من أمها الأصيلة؟

فقال الوزير:- سامحني يا مولاي، لقد ماتت أمها ساعة ولادتها، ولم يكن عندي إلا بقرة واحدة، فأرضعتها منها. حينئذٍ أخرج الملك الرجل من السجن وقال له: - أخبرني، كيف عرفت أنها لم ترضع من أمها؟

فأجابه الرجل:- الفرس الأصيلة تأكل عادةً من المعلَف أو تعلق لها في رقبتها وهي رافعة الرأس، أما فرسك فكانت تبحث عن طعامها على الأرض مثل البقر. فأُعجب الملك بذكائه، وقال لخدمه:- أطْعموه الدجاج وأكرموه. ثم قال للرجل:- والآن، ستسوس زوجتي الملكة، وتكون نديمها وخادمها. فقال الرجل متوسلًا:- أعفني يا مولاي.

قال الملك:- لن أعفيك، نفّذ أمري. ذهب الخدم إلى الملكة وأخبروها أن الملك قد عيّن لها خادمًا جديدًا بأمره، ليكون نديمها ويقضي حاجاتها. وبعد مدة استدعاه الملك وسأله:- ماذا وجدت في الملكة؟

فقال الرجل متوسلًا:- أعفني يا مولاي.

لكن الملك أصرّ وأعطاه الأمان، فقال الرجل:- إنها ذات تربية ملوك، وأخلاق ملوك، وكرم ملوك، لكن من أخبرك أنها ابنة ملوك فلا تصدقه! ثار غضب الملك وقال:- كيف تقول إن زوجتي ليست بنت ملوك؟ ثم أمر بسجنه وقطع الطعام عنه، وذهب الملك إلى أهل زوجته وسلّ سيفه عليهم يسألهم عن حقيقة ابنتهم. فاضطروا أن يكشفوا السر:- يا مولاي، لقد كان الاتفاق بيننا وبين أبيك الملك أن تكون ابنتنا زوجة لك منذ طفولتها، لكن الفتاة ماتت بالحصبة وهي في الثانية من عمرها. وفي ذلك الوقت أمر أبوك بتهجير الغجر وحرق بيوتهم، فوجدنا طفلة صغيرة وحدها عند وتد الخيمة، فأخذناها وربّيناها. عاد الملك غاضبًا، وأمر بإخراج الرجل من السجن وسأله:- كيف عرفت سرّ زوجتي؟ قال الرجل:- يا مولاي، لها غمزة بعينها، وهذه عادة الغجر يغمزون بعضهم بها أثناء حديثهم. فأعجب الملك بدهائه أكثر وقال:- أطْعموه خروفًا في الصباح، وآخر في الغداء، وثالثًا في العشاء، وليبقَ هنا يسوسني أنا! ارتعد الرجل وخاف أشد الخوف، وطلب الإعفاء، لكن الملك أصرّ أن يعرف رأيه فيه. فلما أُعطي الأمان قال الرجل:- من قال لك إنك ابن ملك؟ اذهب وابحث عن أصلك. فذهب الملك إلى أمه يسألها:- أأنا ابن مَن؟ وأصرّ عليها حتى حلفها بالله أن تصدق. فقالت له: - أبوك كان ظالمًا عقيمًا، يتزوج الفتيات، فإن لم يلدن في تسعة أشهرذبحهن. وهكذا قَتل نصف بنات البلاد. فلما جاء دوري خفت أن يُذبحني،وكان في القصرطباخ، فأنت ابنه!عاد الملك إلى الرجل وسأله:- كيف عرفت حقيقتي؟

فقال الرجل:- الملوك إذا رضوا على أحد أغدقوا عليه الذهب والفضة، أما أنت فكلما رضيتَ على أحد أطعمتَه مرقًا ورزًا ودجاجًا ولحمًا! هذا حال من يرافق الطباخ، يعطيه طعامًا حين يرضى، ويقطع عنه حين يغضب.

وهكذا صدقت الحكمة: العِرق دساس.


Previous
Next Post »